من وحي الهجرة ودروسها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
ها نحن في مطلع عام هجري جديد، وعلى مقربة من عام ميلادي جديد أيضاً فماذا يعنينا ذلك؟ ومايهمنا؟ أهي أعوام تنقضي وتنصرم؟ وسنوات تحسب من أعمارنا؟ أم أرقام تتتالى؟ أم أن لذلك مدلولات عظيمة ودروس مهمة؟
لقد نأيت بعيداً عزيزي الذي ظننت أنها مجرد أرقام أو أعوام تمضي سراعاً.
إن لها مدلولات وعبراً هي غاية في الأهمية، فالهجرة هجرة القلوب إلى علام الغيوب، وهجرة الأبدان إلى ما يرضى عنه الرحمن عز وجل، وهجرة من الذنوب والمعاصي إلى الطاعات، ولا أَدَلَّ على ذلك من قول النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه [البخاري].
والهجرة من شأن الأنبياء، هاك الخليل إبراهيم عليه السلام قد هاجر من العراق إلى الشام ثم فلسطين ثم مصر ثم مكة المكرمة، والكليم موسى عليه السلام هاجر من فلسطين إلى مصر، والحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هاجر من مكة المكرمة إلى طيبة الطيبة.
ترى لِمَ هاجروا وحملوا أعباء السفر ومشاقه؟ إنما كان ذلك ليبلغونا دين الله الذي يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر.
نعم هاجروا ليبلغوا أممهم دين الله، ولذلك هاجر نبينا صلى الله عليه وسلم، فما أحرانا أن نلتزم ما بلَّغنا به، ونتعاهد على الالتزام به، ونجدد العهد على ذلك، وأن نتمثل منهج التجار في تجاراتهم من جرد الحسابات في آخر العام، فإن كان رابحاً زاد في تجارته ونماها، وإن كان خاسراً بحث عن الأسباب والبواعث؛ ليتداركها في العام القادم.
وهكذا المسلم عليه في أعتاب كل عام جرد حسابه في الطاعة، فإن كان من المحَلِّقين أفلح وربح، وهنيئاً له، وعليه المثابرة والزيادة، وإن كان من المقصرين خسر، وعليه تدارك نفسه وتنمية تجارته مع الله تعالى، وما جعل الله هذه التجارة إلا لنربح عليه سبحانه، وإلا فما الحكمة من تشريع الفرائض والسنن والمندوبات والصالحات من الأعمال؟ أليستفيد منها الباري تعالى؟ حاشا له ذلك سبحانه! بل هي لإفادتنا؛ ولنعلم أن الجنة ودرجاتها العلى على قدر العمل والالتزام والطاعة.
على أن مرضاة الله تعالى تنال بأعمال قد يراها البعض بسيطة لا تذكر في ميزان العبد، أما في ميزان الله تعالى فهي عظيمة جداً، إذ ربما بأمر بمعروف أو ينهى عن منكر أو يتكلم بكلمة أو جملة فيكون له عظيم الأجر، من ذلك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم [متفق عليه]، ومنه أذكار ما بعد الصلاة، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر. [رواه مسلم]، وإلى غير ذلك من أعمال خفيفة على العبد، يقوى عليها القوي والضعيف، والغني والفقير.
هذه بعض دروس الهجرة التي علينا التمسك بها، وأن نتمثل بها؛ لتجري منا مجرى الدم من عروقنا، وأن نعلمها أولادنا؛ ليتأسوا بأبناء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عودة إلى أرشيف كلمة الشهر |