اخترنا لكم
>>
قصة و عبرة
:
أبتي لن أعصيك... فهل لك أن ترجع لي يدي؟
سؤال حزَّ في نفسي، وعصر لي قلبي، وهزّني من أعماقي، وأثّر في وجداني.
سؤال سأله طفل لأبيه في قصة مأساوية بدايتها أن أسرة دلّلت طفلها حتى
الإفساد، فطلبه لا يُردّ، وكلمته مسموعة لا داعي لتكرارها، وإن عتب
المُربّون، إفراط في الدلال، وسخاء في الإفساد، حبٌّ دون قيود، وإن لام
الموجِّهون، مداعبة دائمة، وإطراء غير منقطع، أمٌّ عطوف رؤوم حانية، وأب
غير مبالٍ، كثير الأشغال والانشغال، وجيران أحبوا من هذا الطفل حركاته
وعينيه وجمال وجهه و...و... و...، وكل ما هو مادي زائل، كل ذلك أورث
شقاوة وعناداً، وقلة أدب وتجرؤاً على الأهل، وتجاوزاً لكل الحدود،
وتخطياً لجلِّ الآداب، وأذى لا مثيل له، مما جعل الأم الجاهلة الغافلة
تضيق ذرعاً بهذا الطفل الذي وصل إلى التمييز من عمره، وربما دخل المدرسة
ليكمل مشوار الدلال والشقاوة، ضاقت به ذرعاً دون أن تدري بجريمتها، ودون
أن تعلم عقابيل إفساد الطفل.
وفي يوم من الأيام التي كاد ينفد فيها صبر الأم توعدته كعادتها، ثم
قررت أن تشكوه لوالده، عساه يجد لهذا العناد حلاً، ولهذا التجاوز حداً،
والأب هو راعي البيت والمسؤول الأول فيه استرعاه الله وجعله قائداً فيه،
فإن أفلح أبحر المركب بسلام، وإن قصّر غرق المركب.
ولكن الولد ظن أنها تمزح فهو الولد المدلل المرفه برفاهية ودلال يزيد
عن سبع نجوم، فما إن وصل الأب إلى البيت حتى أعطته الأم التقرير المفصل
لما جرى وحدث وصبّت جام غضبها عليه وأوغرت صدر الأب: الولد كسر، الولد
وسخ، الولد فعل، الولد قال، الولد عاندني، الولد... الولد...، وما أن
انتهت الجريدة والتقرير حتى استشاط الأب غضباً، واشتعلت النيران في رأسه
وقلبه، وبدأت السلبية تستر وتخمر لبه وفؤاده عن الحق والتربية، فنادى
الولدَ المسكين، وبدأ بضربه دون وعي، ثم يهز جسمه الغض الطري، وكال له
الشتائم، ثم رأى لوحاً خشبياً على طرف الحائط، فحمله وجعل يضرب به الطفل
على يده، وبدأ الطفل يصرخ من ألمه وهو يُضرب ضرباً مبرحاً، وكلما ضُرب
زاد ألمه وازداد صراخاً، حتى جعل يقفز عن الأرض وهو يترجى والده، كل هذا
والأب لا يزال على ما هو عليه من غضب وعماوة وتأديب كما يظن ويعتقد،
والطفل يستغيث ألماً ويصرخ لا خوفاً من أبيه بل يصرخ بسبب هذه الخشبة ذات
المسامير، وعندما رأى هذا الأب المربي الدم يسيل من يد فلذة كبده أفاق من
غيبوبته، ونظر في اللوح الخشبي، ثم أمعن النظر فرأى فيه مسامير جرحت ولده
جرحين أسال أحدهما الدم، ما جعله يسرع إلى المشفى وهو يحاول عبثاً تهدئة
ولده، والولد يصرخ ألماً، ولا أدري إن رافقه حقد على هذا المربي الفاضل
الذي عوَّض سِنِيَّ هذا الإفساد والإهمال كلها بعقاب ظالم جائر.
أجرى الأطباء إسعافاتهم الأولية ودرسوا الحالة وقدموا واجبهم الطبي
المهني الذي تقتضيه الحالة، والأب ينتظر بفارغ الصبر أن يرى ولده وهو
يخرج ضاحكاً مستبشراً بأن جرحه ضُمِّد وألمه سكن ونفسه هدئت، وأن والده
الذي كان يقدم واجب التربية بالضرب قدم واجب الإسعاف، وذهب خيال الأب
واسعاً في هذا المسار، ولكن يا للصدمة ويا لهول المفاجئة خرج الطفل بيد
واحدة فقط، لقد بترت يده التي أصابتها الخشبة ذات المسامير المسمومة، خرج
ليسأل أباه الموجه المربي الفذَّ: أبتي العزيز... أبتي الحبيب... أقسم
أني سأطيعك ولن أغضبك أو أعصيك، فهل ستعيد إلي يدي؟؟؟
هنا انتهت القصة في الكتاب الذي قرأت بتصرف مني بسيط، ولكن هل انتهت
عند هذ الطفل مبتور اليد؟
ذكرت آنفا جرحين للطفل ذرفت عيناه لأحدهما دمعاً صاحَبه دم وألم، ولكن
الثاني الذي لم أذكره أورث عاهة دائمة لدى الطفل وأذى نفسياً قوياً
سيرافقه مدى حياته.
يا هل ترى أهكذا تكون التربية؟ وهل هذا هو التأديب؟ إفراط في الدلال؟
وتفريط في العقاب؟ نتيجته بترُ يدِ طفل في عمر الورود.
أين الوسطية التي جبلنا الله عليها في قوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة
وسطاً) هل خرجنا عنها وحِدنا عن الصواب؟
أين نحن من تربية النبي صلى الله عليه وسلم لصغار الصحابة؟ أم أين نحن
من قصة أبي عُمير الذي مسح النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه وواساه في
موت العصفور الصغير الذي كان بلعب به؟ أليس في تربيته لابن عباس رضي الله
عنه مثالاً يحتذى في حديث: يا غلام إني أعلمك كلمات... وغيره من
الأحاديث؟ ألم يكن النبي صلى الهب عليه وسلم يُركب الحسن والحسين رضي
الله عنهما على ظهره؟
أين أنت أيها الأب المربي من أسرتك؟ أين أنت خلال هذه السنوات الست
الأولى من عمر ولدك؟ أَلْهَتك الدنيا وغرتك الأموال؟ هل الدنيا والأموال
والعمل أغلى لديك من أسرتك وأولادك؟ أتعلم عزيزي الأب أنك أعطيت جيبك
حقها فرضاً ونافلةً بل وزيادة، وتركت بل وأهملت حق ولدك عليك فرضاً
ونافلة؟ كيف سينشأ طفلك مبتور اليد؟ يد مفقودة تعني عضواً معطلاً، لا
يمكن إرجاعه، أي أثر نفسي تركته؟ حقد على الأب على كلا حاليه، على إفراطه
وتفريطه، هل فكرت كيف سينظر أقرانه إليه؟ أم أنك اكتفيت في إرواء غليلك
بتربيته – عذراً أعني بأذيته وحقده عليك -؟ كيف ستعيد ثقته بك مربياً؟
هل رويت حاجاته النفسية والفكرية كما رويت معدته وجسمه؟ هل كسوت
تفكيره بالإيجابية كما كسوت بدنه؟ أعذرني أيها الأب الكريم لا أظنك
طبَّقت هذا، وأرجو الله تعالى ألا تكون بعيداً عنه.
أليس من الواجب عليك أن توجهه، ثم توجهه، ثم تنذره، ثم تصبر عليه،
فإذا أصر عاقبته بما يطيق جسمه وفكره وعقله؟
أظن أن آباء كهذا النموذج يحتاجون لتأهيل تربوي قبل الزواج، فالزواج
ليس استمتاعاً بالزوجة فحسب، بل قيادة سفينة بأخلاق وفن، فهل نحن فنانون
في قيادة بيوتنا بما تشمل من تعامل مع الزوجة وتربية الأولاد وبقية
احتياجات البيت؟
أسأل الله تعالى ذلك.
بقلم ضياء الدين فرفور
|