واحة الفكر
>>
نحن بحاجة إليك :
الأستاذ الدكتور مكّي الحسني
نموذج فريد للتميّز في علوم العصر وعلوم العربية
بسم الله الرحمن الرحيم
شرف كبير لي، أن أحظى بفرصة الكتابة عن رجل كبير مثل أستاذنا الدكتور مكي الحسني الذي انعقدت خناصر أهل العلم - على اختلاف مشاربهم واختصاصاتهم ومستوياتهم وعقائدهم وأديانهم وبلدانهم ولغاتهم - على كبير فضله، وكريم خصاله، ودماثة أخلاقه، وجمّ تواضعه، وحميد جُرْأته، وبالغ حكمته، وتمام صدقه واستقامته وإخلاصه، وعلوّ همته ودأبه وجَلَده، وشرف نسبه، وسعة علمه في اختصاصه النادر الفيزياء الذرية، وفي بلوغه الغاية في إتقانه الترجمة العلمية من العربية وإليها، وفي دقيق مراجعته العلمية لجهود الآخرين المؤلّفة والمترجمة بحوثاً ودراساتٍ وكتباً، وفي علو كعبه في اللغة العربية عامّةً، وفي نحوها وصرفها ولغتها ومعاجمها وقضاياها المعاصرة خاصّةً، فضلاً عن واسع كرمه وبذله، وشديد حرصه على نفع الآخرين وتعليمهم أيّاً كانت أقدارهم ومواقعهم وحظوظهم من العلم، طلاباً وأساتذةً ومؤلّفين ومسؤولين .
ما زلت أذكر سنوات حلوة ممتعة، كانت في الثمانينات من القرن الماضي، ضمّتنا فيها اجتماعاتُ " لجنة فعّالية النشر " بمركز الدراسات والبحوث العلمية بدمشق، الذي عهد إلينا مهمة اختيار أفضل كتب الثقافة العلمية الأجنبية المعاصرة، وإسناد ترجمتها ومراجعتها إلى ذوي الكفاية من المختصّين، ثم الوقوف على نشرها، مع نخبة من أعلام العلم : الدكتور عبد الحليم منصور والدكتور مكي الحسني والدكتور أدهم السمان، رحمه الله، والدكتور أحمد الحاج سعيد، نعمت فيها بصحبته، ونهلت فيها من علمه، وقبست فيها من دقيق منهجه، وسعة حكمته، وكبير تواضعه، فضلاً عما حظيت به من شرف صحبتهم، والإفادة من غزير علمهم، ومديد خبراتهم .
على أن المقام، وإن كان لا يتسع لإيراد الأمثلة التي تنهض شاهدةً بصدق ما سلف، وهي من الكثرة بمكان، أجدني مضطراً إلى أن أقتصر على مثال واحد منها، يدلّ على ما وراءه، ويغني غَناء كثير منها، فقد كان من سالف أمري أن نهضت صيف سنة 2006م بمراجعة علمية مسهبة متخصّصة لكتاب " قواعد الإملاء " الذي صدر عن مجمع اللغة العربية بدمشق سنة 2004م، فرجوت أستاذنا الدكتور مكي الحسني التفضّل بقراءتها وبيان رأيه فيها قبل تقديمها إلى المجمع، لنشرها في مجلته كما كان مقدّراً ومقرّراً، وذلك لعلمي بأهمية ما أنا مُقْدِم عليه، إذ كان الأمر يتعلّق بما صدر عن المجمع أعلى هيئة علمية تعنى بشؤون اللغة العربية، وهو ما جعله مفزع أهل العلم، يحتكمون إليه في الصواب والخطأ، على عادتي فيما أدفعه للنشر من بحوث ومقالات ودراسات، فقرأها قراءة مدقّقة، على كثرة التزاماته العلمية وشواغله، وهاتفني بعد بضعة أيام، يعلمني بإنجاز مراجعتها، ودعاني متفضلاً إلى زيارته في بيته، لأخذها ومناقشتي في مواضع منها، فأسعدني ذلك أيَّما سعادة، ولبّيت دعوته شاكراً، وجلسنا في مكتبه العامر، وكان أن أضفى عليّ من الثناء ما أرجو أن أكون أهلاً له، وناقشني في ملاحظات جدّ مهمة، دوّنها مشفوعةً بأرقام صفحاتها، تاركاً لي حرية الأخذ بما أقتنع به منها، ثمّ أعطانيها بأحسن أسلوب وألطفه وأرضاه، وما زال - حفظه الله - يحثّني كلّما لقيني قادماً من سفر على وضع كتاب في قواعد الكتابة والإملاء المعاصرة .
ولئن فاتني شرف الأخذ عنه في اختصاصه الأصلي الذي أوفى على الغاية فيه = لقد عوضني الله بأن جعلني قريباً منه، يؤثرني في جملة مَنْ يؤثرهم من الخاصّة بكل جديد ينشره أو تخطّه يمينه، طالباً بتواضع صادق معهود أن نخبره بما نقف عليه من ملاحظات، فأكرمني الله بالأخذ عنه، والتعلّم منه، في أشياء كثيرة تقدمت، وفي اختصاصي الذي وقفت عليه حياتي، تلك هي اللغة العربية وعلومها وقضاياها، يقدم ذلك ما كتبه من سلسلة مقالات متميزة، بلغت زهاء عشرين مقالة، نشرتها مجلة الطاقة الذرية بدءاً من سنة 2002م، حملت أصدق عنوان وأدقّه، وهو " نحو إتقان الكتابة العلمية باللغة العربية " كانت ثمرة سنوات من جهوده في التنقيب والبحث في بطون كتب العربية، والأخطاء اللغوية الشائعة، وفي كتب التراث على اختلاف فنونها، وفي صحبة الأعلام من أهل الاختصاص ومَنْ في حكمهم ومَنْ يفوقهم من المهتمين والمعنيين والباحثين، حسبه في ذلك عنايته مشاركاً الأستاذ العالِم المدقِّق الصديق النبيل مروان البواب في إخراج الكتاب الموسوعي " معجم أخطاء الكتاب " للمرحوم صلاح الدين زعبلاوي، الذي صدر عن دار التراث والثقافة بدمشق 2006م، فضلاً عن طويل صحبته للمعاجم العربية، وكثرة مراجعته لها، وعن نهوضه بوضع منهج متكامل لإنجاز مشروع معجم لغوي معاصر للعربية،لم يقيّض له أن يرى النور، لدواعٍ قاهرة فوق إرادته، لو تحقّق لخلّد اسم الجهة العلمية التي كانت وراءه، لما فيه من مميزات تفتقر إليها معاجم العربية المعاصرة، إذ يضيف ما تحتاجه العربية من توصيف معلوماتي دقيق، وينفي عنها ما يشوبها من وجوه النقص والأخطاء، فكانت سلسلةُ مقالاته في الكتابة العلمية باللغة العربية أنموذجاً يحتذيه النخبة من أساتذة الجامعات الذين يكتبون ويدرّسون بالعربية، ويترجمون إليها ومنها، ويفيد منه غير قليل من ذوي الاختصاص بالعربية ممن جمعوا إلى المعرفة بالقديم والتمكن منه الاطلاعَ على قضاياها المعاصرة، أو المشاركة فيها، ولا عجب فقد كان اختياره عضواً عاملاً في مجمع اللغة العربية بدمشق منذ سنوات خلت، على تأخّره، قراراً حكيماً، وثقةً غاليةً يستحقّها، بل هو أحقّ بها وأهلها، ومثله جدير بها في أزهى عهود المجمع مع العمالقة من أئمة العربية وسدنتها وحُماتها .
قلت ما سبق معايناً لا ناقلاً، ومجرِّباً لا واصفاً، وصادقاً لا مجاملاً، وقريباً لا بعيداً، مع الإقرار بما أعلمه يقيناً من عدم رضا أستاذنا الدكتور مكي بهذا، وبما أعلمه من نفسي من شدة التحفظ في الكتابة عن الآخرين، أيّاً كانوا، وثمّة مَنْ يعلم دلائل هذا فيَّ من الخاصّة .
د . يحيى ميرعلم
|