كتابٍ من صنعة متخصصٍ في علوم العربية عاش حياته لأجلها تأليفاً وتدريساً، ويدرك القارئ لهذا الكتاب تمكن المؤلف رحمه الله في هذا المجال وقدرته التي أعطت الكتاب ذوقاً فنياً عند صياغته له بمنهج مبسط واضح جامع. ::: المزيد
اختلط التراب بمطر السماء , أصبح وحلاً , عجلات سيارته تمشي ببطء
فوقه , مساحات الزجاج تتحرك بسرعة دون فائدة.
علىجانب الطريق الترابي وبالقرب من مبان ريفية قديمة أوقف سيارته , فتح الباب ونزل ببطءإلى وسط الطريق , رفع بصره إلى السماء , أسهم حادة تخترق عينيه وجسده , يرخي رأسهبانكسارة ذليلة. أمام درج منزل بدائي الطراز وقف متسمراً , قدماه التصقتابالأرض , بتثاقل وصعوبة بالغة حركهما وصعد الدرج , طرقات حذائه الأجنبي تدق الدرجاتالخشبية , تتسابق مع قطرات المطر التي تحولت بشكل مفاجئ إلى قطع من البرد , يتمهل , يجلسعلى إحدى الدرجات , يسرح بعيداً..
(( بقربه ابن جيرانهم أحمد , يتكلم عن أخيه الأكبروعن رحيله إلى الخارج للعمل , عن أحاديث كثيرة تغص بأساطير قديمة حول السفر إلىالبلاد الأجنبية , أموال كثيرة , فتيات جميلات , حياة خرافية تجنح لها النفس بمتعها , بينمايحرك قدميه بشكل مستمر مغتراً بحذائه الأجنبي الذي أرسله له أخوه.
وتمضي الساعاتوالشابان تائهان في أمنيات خيالية ممتلئة بتنهدات مستسلمة)).
يتلمسالدرجات , يضربها بشدة , تتفتت منها أجزاء بسيطة , يعاود صعوده.
- أمي!سأسافر إلىالخارج للعمل , لم أعد أطيق الفقر والجوع.
- صرخ بانفعاله المعتاد وصورة الحذاءتتملك تفكيره وتمنعه من الرؤية.
جمدت أمه , سقط إبريق الشاي من يدها فوق مدفأةالحطب , لم تتوقع من طفلها الوحيد هكذا قرار , المياه تقفز فوق النار , تغلي بشدة , مازالصوت غليانها معششاً في خلايا رأسه.
طرقات حذائه , قطرات البرد , غليان المياه , جمودأمه , زمهرير غربة سنواته الطويلة كلها اجتمعت أمام باب منزلهم الخشبي حين خرجت منداخله جارتهم وأخبرته بوفاة والدته...
- مسكينة كانت كل يوم تدخل غرفتك , تحتضنأغراضك وحاجياتك , تشتم رائحتك , تمشي بين جدرانها المتقاربة , تتأمل كل شيء , سريرك , صورتكالوحيدة تحتضنها بين ذراعيها وتقبلها , أرادت أن تراك بشدة , بكت كثيراً حين أخبرتني عنحمائم بيضاء تدور حولها , عن ملائكة لا تعرف لها شكلاً أولوناً تتدافع في عروقها , فينبضات قلبها المتعبة لتنتشلها من ذلك الجسد المنهك , كانت تدرك أنها لن تراك.
شعرأنه سيتكسر كشجرة خريفية أصابها اليباس ببرده القارس مرة واحدة , غدا قطعة من الحطبتحترق بلحائها الجاف بينما تنتحب الحياة في أعماقها , تريد أن تخرج إلى السطح , وجليدمفاجئ يرتعش في أظافره المزرقة.
دفع الجارة بقوة , دخل المنزل , في غرفته بدأتذاكرته تسترق السمع إلى كلمات أمه وعيونه تحتضن شيئاً مجهولاً في عينيها الشامختينبألم خجول يترقب أقل هفوة ليبحر في محيطات عميقة كثيراً ماغرق فيها وكثيراً ما أحسبقربه من ذلك المجهول , تذكر ضحكاتها الهادئة أمام اندفاعه المتسارع , استرجع المفاجئةفي اتساع عينيها وضربات قلبها المتسارعة حين سقط إبريق الشاي من يدها بينما صريرحذاء أحمد يشل إدراكه وحواسه , ضحك بشدة , لم يستطع أن يقاوم دمعات متكاثرة.
فيالخارج عمل كثيراً , لم يترك شيئاً لم يجربه , تذوق ذل الأسطورة , الأموال لم تأت بسهولةوالحياة الخرافية بقيت حبيسة الأحلام. في غرفته لم يدر ماذا يفعل , خرج بسرعة , ركضوركض , تحت قطرات المطر الممزوجة بقطع البرد المتنامية , ارتطم بسيارته , بدأت الغمامةالسوداء تتلاشى من أمام عينيه , مد يده ليفتح باب السيارة , بحركة لا إرادية سحبها , نظرإلى حذائه الأجنبي , خلعه , رماه بعيداً , أراد أن يصرخ , الخواء السخيف يحتل أفكاره , بسهولةوبساطة رحلت اللحظات الدافئة واشتد الشوق عاصفاً في غياهب نفسه المعتمة , جوع غريب فيخراب روحه , تذكر مدفأة الحطب , لقد أحضر لها مدفأة كهربائية , منزلاً وسط المدينةونقوداً كثيرة.
مزق ثيابه الثمينة وارتمى جاثياً على الأرض , حفر الوحل بأصابعهمحاولاً أن يخرج منه شيئاً بلا جدوى , تابع الحفر بسرعة وشراسة , وضع الطين على رأسهووجهه , في وسط الطريق الترابي استلقى , استنشق نفساً طويلاً , أغمض عينيه , شريط منالذكريات الباهتة يمر أمامه , أمه , بيته , والحذاء الأجنبي , ضحك بصوت عال مستهزئ , فجأةباغتته صورة الفتيات الجميلات , تمرغ بالوحل أكثر , دفعة واحدة ينهض , يبحث عنحذائه , يحمله , ينظر حوله بقساوة بالغة ثم يركب سيارته ماضياً في طريقه...
