فضل صوم يوم عرفة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، أما بعد : عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله تعالى عنه : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة، فقال: يكفر السنة الماضية والباقية، وسئل عن صوم يوم عاشوراء، فقال: يكفر السنة الماضية، وسئل عن صوم يوم الإثنين، فقال: ذاك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، وأنزل علي فيه) رواه مسلم .
حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل)، وكونه سئل أي: أنه لم يأتِ الأمر منه صلى الله عليه وسلم ابتداءً كأن يقول: (صوموا يوم عرفة، فإن فرضه كذا وكذا)، ولكنه في هذا الحديث سئل فأجاب، ومن هنا يقول بعض العلماء: ما كان جواباً عن سؤال قد يكون قضية عين، ولكن قضية العين تتعلق بشخص أو جماعة محدودة بأعيانهم، وأما السؤال هنا فهو عن اليوم .
الفرق بين عرفة وعرفات وسبب هذه التسمية
(سئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة)، يقال: عرفة وعرفات بالتاء يقول علماء اللغة: عرفة اسم للزمان ولليوم، وعرفات بالتاء: اسم للمكان، وهو موضع بمكة، كأذرعات موضع بالشام.
يوم عرفة -كما يقولون- في تاريخ المناسك: أنه سمي عرفة؛ لأن أبانا آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما نزل من السماء إلى الأرض، واختلف هو وحواء، ساح في الأرض ما شاء الله ثم لقيها في ذلك المكان فتعارفا فسمي عرفة، هذا القول الأول، وأعتقد أن هذا بعيد، فما هو الذي فرق بينهما لما نزلا من الجنة وهما نزلا معاً؟!
القول الثاني: في سبب تسميته بعرفة أن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما بنى البيت وأُمر أن يؤذن في الناس بالحج، قال: { رَبَّنَا وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا } [البقرة:128]، فأرسل الله له جبريل وخرج معه إلى منى، وبيّن له مواقع الجمرات، وذهب معه إلى المشعر الحرام، وأخيراً ذهب معه إلى عرفات، وبيّن له الموقف، ثم قال له: (أعرفت المناسك؟ قال: عرفت) فسميت عرفات؛ لأنه استعرفه على ما عرّفه عليه من المناسك.
وهناك قول ثالث وهو: أنه سمي عرفات؛ لأن العالم الإسلامي يأتي من كل فج عميق فيتعارفون في ذلك المكان، ومهما يكن من سبب التسمية فقد أصبحت الآن كلمة عرفة مشهورة، وعرفات علم وتنوسي فيه الوصف، كما تقول: العباس والضحاك، فالعباس: قد يكون بشوش الوجه، فتنوسي وصف العبوسة فيه، وأصبح علماً، والضحاك: قد يكون عابس الوجه كئيباً، فتنوسي وصف الضحك فيه وأصبح علماً.
وهكذا في عرفة لا علاقة للتسمية بعمل النسك.
وصوم هذا اليوم يقول عنه صلى الله عليه وسلم: ( يكفر سنتين: سنة قبله، وسنة بعده )، سنة قبله أي: قبل السنة التي هو فيها؛ لأنه في آخر أشهرها، وهو شهر ذي الحجة، والسنة التي فاتت، قد يحمل الإنسان فيها بعض ما قدر عليه من الأخطاء والذنوب؛ لأنه ليس معصوماً، وصوم يوم عرفة يكفرها ولكن السنة التي بعده ماذا يكفر فيها وهو لم يرتكب فيها شيئاً بعد؛ لأنه ما عاصرها ولا عاشها، فكيف يُكفر شيء لم يوجد؟! استشكل العلماء هذا، وأجابوا عنه بأجوبة: منها: أن الله يسدد هذا الشخص لفعل الخير ويبعده عن ارتكاب الآثام، ومنعه من ارتكاب الآثام بمثابة تكفيرها.
ومنها: أنه إذا ارتكب شيئاً من الذنوب وفق للعودة إلى الله وسرعة التوبة، فيكون ذلك تكفيراً لها.
ومهما يكن من شيء فإن بعض العلماء يقولون: لا ينبغي أن تفسر أحاديث الوعد والوعيد، بل تترك على ما هي عليه بنصها ومدلولها العام، كي يكون وقعها في قلب المؤمن أكثر.
ونحن نقول: الحمد لله، قبلنا البشرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حكم صوم يوم عرفة بعرفة
ولكن بقي حكم صوم يوم عرفة بعرفة، حج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وقال: ( خذوا عني مناسككم )، فيا ترى! هل صام صلى الله عليه وسلم أو أفطر؟ جاء في الحديث أن الصحابة اختلفوا هل هو صلى الله عليه وسلم صائم أو مفطر؟ ولم يجرءوا أن يسألوه هل أنت صائم أو مفطر؟ وكانت أم الفضل رضي الله تعالى عنها حكيمة، فقالت: أنا أخبركم، فأرسلت إليه صلى الله عليه وسلم بقدح من لبن، وهي تعلم أنه لا يرد اللبن، وذلك ضمن ثلاث لا ينبغي للضيف أن يردها على مضيفه وهي: اللبن والريحان والوسادة.
فإذا دخلت ضيفاً على إنسان وقدَّم لك اللبن فلا تقل: أنا لا أريده؛ لأنه كما قال الله عنه: { لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } [النحل:66]، ومثله الريحان، والعطور: كنعناع أو ريحان أو ورد أو فل، لا ينبغي أن تردها لأنها طيبة الريح.
ومثل ذلك الوسادة إذا أعطاكها، لترتفق بها فلا تردها؛ لأنه يريد إكرامك، والإحسان إليك، وكما قالوا: ينبغي للضيف أن يجلس حيث أجلسه المضيف؛ لأنه أدرى بعورات البيت.
فلما علمت رضي الله عنها أنه صلوات الله وسلامه عليه لا يرد اللبن أرسلت إليه بقدح من اللبن، لأنها تعرف أنه إن كان صائماً فسيرده للصوم لا لكونه لبناً، وإن لم يكن صائماً فسيشربه فلما أرسلت إليه باللبن بعد العصر أخذ القدح فرفعه والناس ينظرون فشرب، فعلموا أنه مفطر.
فإذا قيل: صوم يوم عرفة يكفر سنتين، فهل الرسول زاهد في هذا الخير، وهو الذي أمرنا به؟ الجواب: لا.
ولهذا قال العلماء: صوم يوم عرفة يكفر سنتين لمن ليس بعرفات، فإذا أنت لم تحج وجلست في بلدك فصم، أما إذا حججت فعليك أن تفطر، والسبب أنك متلبس بأنساك وبعبادات والفطر أولى وأقرب لفعل الطاعة.
فإذا كان إنسان جالساً في بيته فنقول له صم، وإما إذا كان في الحج والمناسك والقربان إلى الله، والله يتجلى لأهل الموقف في يوم عرفات، فنقول له: لا تصم، ويقولون هنا: انظر إلى الأعمال التي يعملها الحاج في يوم عرفة وقبله، فهو يصعد من مكة إلى منى في يوم الثامن من ذي الحجة، ثم يبيت في منى ليلة، وبعد أن تطلع الشمس يذهب إلى عرفات، والمسافة بين المسجد الحرام وأرض عرفات واحد وعشرون كيلو متراً، منها سبعة إلى منى، ويكون الباقي إلى عرفات أربعة عشر، فأمامه مشي أربعة عشر كيلو متراً، فإذا جاء إلى عرفات فأمامه الصلاة، وسماع الخطبة، ثم الذهاب إلى الموقف، وقد بقي صلى الله عليه وسلم في الموقف على ظهر راحلته من بعد أن صلى الظهر والعصر جمعاً إلى أن غربت الشمس، فيبقى الحاج على هذا في عمل وجهاد واجتهاد في الدعاء، ثم بعد غروب الشمس ينزل إلى مزدلفة وفي هذا زحام، فإذا صلى العشاء نام، وعند طلوع الفجر يصلي ويجتهد في ذكر الله عند المشعر الحرام، إلى قبيل أن تطلع الشمس، ثم ينزل إلى وادي محسر، ويسرع في المشي، ثم يأتي إلى منى، ويرمي ويحلق وينحر، ثم ينزل إلى مكة، ليطوف طواف الإفاضة، ويرجع إلى منى ليقيم فيها، فأي حركة بعد هذا؟! الشاب القوي الفتي، يكل من أعمال ذلك اليوم وما بعده، فهذا الجهد وهو عمل في الفرض، وتكملة له، لا يحتاج إلى صيام، بل يحتاج إلى أكل وفيتمينات وإلى كل المقويات؛ لأنه إذا صام فسيكون في يوم عرفة ضعيفاً وكأنه مغمى عليه، ولا يجتهد في دعاء، ولا يجتهد في مناجاة لله، وإذا نزل إلى مزدلفة فسيكون متعباً لأنه كان بالأمس صائماً.
إذاً: من هنا قال العلماء رحمهم الله: صوم يوم عرفة يكفر سنتين لمن ليس بعرفة، أما من كان حاضراً عرفة فهو في نسك، وهذا بخلاف الذي يحضر إلى عرفة للخدمة، وللبيع والشراء، فهذا يصوم إن شاء، يقول بعض العلماء: إن بعض الصحابة كان صائماً يوم عرفة في حجة الوداع، وبعض السلف كان يصوم يوم عرفة في عرفات، فقيل لهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أفطر فيه، فقالوا: كانت السنة الفطر فيه إبقاءً على الضعيف، وأما القوي الذي يجد من نفسه القوة والنشاط، ويستطيع أداء الواجب مع الصيام، فهو خير إلى خير، ولكن الجمهور ردوا وقالوا: أي إنسان لن يكون أقوى من رسول الله، فأجاب الآخرون وقالوا: رسول الله فعل ذلك للتشريع، فيقال لهم: ولكنه قال: ( خذوا عني مناسككم ).
ومع وجود هذا الخلاف عن بعض السلف في الأولى لمن حضر عرفات في نسك الحج هل يكون صائماً أو مفطراً؟ نقول: الأولى أن يكون مفطراً لفعله صلى الله عليه وسلم ولقوله: ( خذوا عني مناسككم ).
منقول
الكتاب : شرح بلوغ المرام
المؤلف : عطية بن محمد سالم