وجهة نظر
>>
مشكلات اجتماعية
:
قطيعة الرحم
المظاهر – الأسباب – العلاج
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله لا يحب الفاحش و لا المتفحش و الذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش و التفحش و قطيعة الرحم .
مقدمة :
إن قطيعة الرحم ذنب عظيم، وجرم جسيم، يفصم الروابط، ويقطع الشواجر، ويشيع العداوة والشنآن، ويحل القطيعة والهجران.
وقطيعة الرحم مزيلة للألفة والمودة، مؤذنة باللعنة وتعجيل العقوبة، مانعة من نزول الرحمة ودخول الجنة، موجبة للتفرد والصغار والذلة.
وهي- أيضا - مجلبة لمزيد الهم والغم؛ ذلك أن البلاء إذا أتاك ممن تنتظر منه الخير والبر والصلة- كان ذلك أشد وقعا، وأوجع مسا، وأحد حدا، وألذع ميسما، قال طرفة بن العبد في معلقته المشهورة:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
وكفى بهذا الذنب زاجرا- قوله تعالى-: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } [محمد: 22 - 23 ].
وقول النبي صلى الله عليه و سلم : { لا يدخل الجنة قاطع }.
قال سفيان في روايته: " يعني قاطع رحم "
والحديث في الصفحات التالية سيتناول قطيعة الرحم، وذلك من خلال ما يلي:
مظاهر قطيعة الرحم .
أسباب قطيعة الرحم .
علاج قطيعة الرحم .
وأخيرا : أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يجعلنا ممن يصلون ما أمر الله به أن يوصل، وأن يعيذنا من قطيعة الأرحام .
وأسأله سبحانه أن يجعل هذه الصفحات معينة على البر والصلة، إنه سميع قريب .
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه .
مظاهر قطيعة الرحم
قطيعة الرحم من الأمور التي تفشت في مجتمعات المسلمين ، خصوصا في هذه الأعصار المتأخرة التي طغت فيها المادة، وقل فيه التواصي والتزاور، فكثير من الناس مضيعون لهذا الحق مفرطون فيه. ولقطيعة الرحم مظاهر عديدة :
1 - فمن الناس من لا يعرف قرابته بصلة ؛ لا بالمال، ولا بالجاه، ولا بالخلق، تمضي الشهور، وربما الأعوام، وما قام بزيارتهم، ولا تودد إليهم بصلة، أو هدية، ولا دفع عنهم حاجة أو ضرورة أو أذية، بل ربما أساء إليهم بالقول أو الفعل، أو بهما جميعا .
2 - ومن الناس من لا يشارك أقاربه في أفراحهم، ولا يواسيهم في أتراحهم، ولا يتصدق على فقيرهم، بل تجده يقدم غيرهم عليهم في الصلات الخاصة، التي هم أحق بها من غيرهم.
3 - ومن الناس من يصل أقاربه إن وصلوه، ويقطعهم إن قطعوه، وهذا في الحقيقة ليس بواصل ، وإنما هو مكافئ للمعروف بمثله، وهذا حاصل للقريب وغيره؛ فإن المكافأة لا تختص بالقريب وحده .
والواصل- حقيقة- هو الذي يصل قرابته لله ، سواء وصلوه أم قطعوه ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم { ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطع رحمه وصلها }ومن مظاهر قطيعة الرحم أن تجد بعض الناس ممن آتاه الله علما ودعوة- يحرص على دعوة الأبعدين، ويغفل أو يتغافل عن دعوة الأقربين، وهذا لا ينبغي فالأقربون أولى بالمعروف، قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214]
ومن مظاهر القطيعة أن تجد بعض الأسر الكبيرة قد نبغ فيها طالب علم ، أو مصلح ، أو داعية ، فتراه يلقى القبول والتقدير من سائر الناس ، ولا يلقى من أسرته إلا كل نكود وجحود ؛ مما يوهن عظمه ؛ ويوهي قواه ، ويقلل أثره .
ومن مظاهر القطيعة ، تحزيب الأقارب ، وتفريق شملهم ، وتأليب بعضهم على بعض .
هذا وسيأتي مزيد بيان لمظاهر القطيعة عند الحديث عن أسبابها .
أسباب قطيعة الرحم
إذا نظرت إلى قطيعة الرحم، وجدت أنها تحدث لأسباب عديدة تحمل على القطيعة؛ منها :
1- الجهل : فالجهل بعواقب القطيعة العاجلة والآجلة يحمل عليها، ويقود إليها، كما أن الجهل بفضائل الصلة العاجلة والآجلة يقصر عنها، ولا يبعث إليها.
2- ضعف التقوى : فإذا ضعفت التقوى، ورق الدين لم يبال المرء بقطع ما أمر الله به أن يوصل، ولم يطمع بأجر الصلة، ولم يخش عاقبة القطيعة.
3- الكبر: فبعض الناس إذا نال منصبا رفيعا، أو حاز مكانة عالية، أو كان تاجرا كبيرا- تكبر على أقاربه، وأنف من زيارتهم والتودد إليهم؛ بحيث يرى أنه صاحب الحق، وأنه أولى بأن يزار ويؤتى إليه.
4- الانقطاع الطويل: فهناك من ينقطع عن أقاربه فترة طويلة، فيصيبه من جراء ذلك وحشة منهم، فيبدأ بالتسويف بالزيارة، فيتمادى به الأمر إلى أن ينقطع عنهم بالكلية، فيعتاد القطيعة، ويألف البعد.
5- العتاب الشديد : فبعض الناس إذا زاره أحد من أقاربه بعد طول انقطاع- أمطر عليه وابلا من اللوم، والعتاب، والتقريع على تقصيره في حقه، وإبطائه في المجيء إليه. ومن هنا تحصل النفرة من ذلك الشخص، والهيبة من المجيء إليه؛ خوفا من لومه، وتقريعه، وشدة عتابه.
6- التكلف الزائد: فهناك من إذا زاره أحد من أقاربه تكلف لهم أكثر من اللازم، وخسر الأموال الطائلة، وأجهد نفسه في إكرامهم، وقد يكون قليل ذات اليد .
ومن هنا تجد أن أقاربه يقصرون عن المجيء إليه؛ خوفا من إيقاعه في الحرج .
7- قلة الاهتمام بالزائرين : فمن الناس من إذا زاره أقاربه لم يبد لهم الاهتمام، ولم يصغ لحديثهم ، بل تجده معرضا مشيحا بوجهه عنهم إذا تحدثوا ، لا يفرح بمقدمهم ، ولا يشكرهم على مجيئهم ، ولا يستقبلهم إلا بكل تثاقل وبرود؛ مما يقلل رغبتهم في زيارته .
8- الشح والبخل : فمن الناس من إذا رزقه الله مالا أو جاها- تجده يتهرب من أقاربه، لا كبرا عليهم، وإنما خوفا من أن يفتح الباب عليه من أقاربه، فيبدؤون بالاستدانة منه، ويكثرون الطلبات عليه، أو غير ذلك!.
وبدلا من أن يفتح الباب لهم، ويستضيفهم، ويوسع عليهم ويقوم على خدمتهم بما يستطيع، أو يعتذر لهم عما لا يستطيع- إذا به يعرض عنهم، ويصرمهم، ويهجرهم، حتى لا يرهقوه بكثرة مطالبهم- كما يزعم-!
وما فائدة المال أو الجاه إذا حرم منه الأقارب ؟ قال زهير بن أبي سلمى - وما أجمل ما قال :
ومن يك ذا فضل فيبخل فضله على قومه يستغن عنه ويندم
9- تأخير قسمة الميراث: فقد يكون بين الأقارب ميراث لم يقسم ؛ إما تكاسلا منهم، أو لأن بعضهم عنده شيء من العناد، أو نحو ذلك.
وكلما تأخر قسم الميراث، وتقادم العهد عليه- شاعت العدواة والبغضاء بين الأقارب؛ فهذا يريد حقه من الميراث ليتوسع به، وهذا آخر يموت ويتعب من بعده في حصر الورثة، وجمع الوكالات حتى يأخذوا نصيبهم من مورثهم، وذاك يسيء الظن بهذا، وهكذا تشتبك الأمور، وتتأزم الأوضاع، وتكثر المشكلات فتحل الفرقة، وتسود القطيعة.
10- الشراكة بين الأقارب: فكثيرا ما يشترك بعض الأخوة أو الأقارب في مشروع أو شركة ما- دون أن يتفقوا على أسس ثابتة، ودون أن تقوم الشركة على الوضوح والصراحة، بل تقوم على المجاملة، وإحسان الظن .
فإذا ما زاد الإنتاج، واتسعت دائرة العمل- دب الخلاف، وساد البغي، وحدث سوء الظن، خصوصا إذا كانوا من قليلي التقوى والإيثار، أو كان بعضهم مستبدا برأيه، أو كان أحد الأطراف أكثر جدية من الآخر.
ومن هنا تسوء العلاقة، وتحل الفرقة، وربما وصلت الحال بهم إلى الخصومات في المحاكم، فيصبحون بذلك سبة لغيرهم، قال الله تعالى: { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } [ص:24].
11- الاشتغال بالدنيا: واللهث وراء حطامها، فلا يجد هذا اللاهث وقتا يصل به قرابته ، ويتودد إليهم .
12- الطلاق بين الأقارب: فقد يحدث طلاق بين الأقارب، فتكثر المشكلات بين أهل الزوجين، إما بسبب الأولاد، أو بسبب بعض الأمور المتعلقة بالطلاق، أو غير ذلك .
13- بعد المسافة والتكاسل عن الزيارة: فمن الناس من تنأى به الديار، ويشط به المزار، فيبتعد عن أهله وأقاربه، فإذا ما أراد المجيء إليهم بعدت عليه الشقة، فتثبط عن المجيء والزيارة .
14- التقارب في المساكن بين الأقارب: فربما أورث ذلك نفرة وقطيعة بين الأقارب، وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : " مروا ذوي القرابات أن يتزاوروا ولا يتجاوروا "
قال الغزالي معلقا على مقولة عمر: " وإنما قال ذلك لأن التجاور يورث التزاحم على الحقوق، وربما يورث الوحشة وقطيعة الرحم"
وقال أكثم بن صيفي : " تباعدوا في الديار تقاربوا في المودة "
ثم إن القرب في المسافة قد يسبب بعض المشكلات، التي تحدث بسبب ما يكون بين الأولاد من تنافس، أو مشادة، أو غير ذلك، وقد ينتقل ذلك إلى الوالدين، فيحاول كل من الوالدين أن يبرئ ساحة أولاده، فتنشأ العدواة، وتحل القطيعة.
15- قلة تحمل الأقارب والصبر عليهم: فبعض الناس لا يتحمل أدنى شيء من أقاربه، فبمجرد أي هفوة، أو زلة، أو عتاب من أحد من أقاربه يبادر إلى القطيعة والهجر.
16- نسيان الأقارب في الولائم والمناسبات: فقد يكون عند أحد أفراد الأسرة وليمة أو مناسبة ما، فيقوم بدعوة أقاربه إما مشافهة، أو عبر رقاع الدعوة، أو عبر الهاتف، وربما نسي واحدا من أقاربه، وربما كان هذا المنسي ضعيف النفس، أو ممن يغلب سوء الظن، فيفسر هذا النسيان بأنه تجاهل له، واحتقار لشخصه، فيقوده ذلك الظن إلى الصرم والهجر.
17- الحسد: فهناك من يرزقه الله علما، أو جاها، أو مالا، أو محبة في قلوب الآخرين، فتجده يخدم أقاربه، ويفتح لهم صدره، ومن هنا قد يحسده بعض أقاربه، ويناصبه العداء، ويثير البلبلة حوله، ويشكك في إخلاصه.
18- كثرة المزاح: فإن لكثرة المزاح آثارا سيئة؛ فلربما خرجت كلمة جارحة من شخص لا يراعي مشاعر الآخرين فأصابت مقتلا من شخص شديد التأثر، فأورثت لديه بغضا لهذا القائل.
ويحصل هذا كثيرا بين الأقارب؛ لكثرة اجتماعاتهم.
قال محمود الوراق:
تلقى الفتى يلقى أخاه وخدنه ويقول كنت ممازحا وملاعبا
ألهبتها وطفقت تضحك لاهيا أو ما علمت ومثل جهلك غالب
في لحن منطقه بما لا يغفر هيهات نارك في الحشا تتسعر
مـمـا بـه وفـؤاده يـتـفطـر أن المزاح هو السباب الأكبر
قال ابن عبد البر - رحمه الله -: " وقد كره جماعة من العلماء الخوض في المزاح؛ لما فيه من ذميم العاقبة، ومن التوصل إلى الأعراض، واستجلاب الضغائن، وإفساد الإخاء ".
19- الوشاية والإصغاء إليها: فمن الناس من دأبه وديدنه وهجيراه- عياذا بالله- إفساد ذات البين، فتجده يسعى بين الأحبة لتفريق صفهم، وتكدير صفوهم، فكم تحاصت بسبب الوشاية من رحم، وكم تقطعت من أواصر، وكم تفرق من شمل.
وأعظم جرما من الوشاية: أن يصغي الإنسان إليها، ويصيخ السمع لها. وما أجمل قول الأعشى:
ومن يطع الواشين لا يتركوا له صديقا وإن كان الحبيب المقربا
20- سوء الخلق من بعض الزوجات: فبعض الناس يبتلى بزوجة سيئة الخلق، ضيقة العطن، لا تحتمل أحدا من الناس، ولا تريد أن يشاركها في زوجها أحد من أقاربه أو غيرهم، فلا تزال به تنفره من أقاربه، وتثنيه عن زيارتهم وصلتهم، وتقعد في سبيله إذا أراد استضافتهم، فإذا استضافهم أو زاروه لم تظهر الفرح والبشر بهم، فهذا مما يسبب القطيعة بين الأقارب. وبعض الأزواج يسلم قياده لزوجته فإذا رضيت عن أقاربه وصلهم، وإن لم ترض قطعهم، بل ربما أطاعها في عقوق والديه مع شدة حاجتهم إليه.
هذه بعض الأسباب الحاملة على الهجر وقطيعة الرحم .
علاج قطيعة الرحم
مر بنا القطيعة ، وأضرارها ، وذكر شيء من الأسباب التي تحمل عليها .
فإذا كان الأمر كذلك فما أجدر العاقل أن يحذر قطيعة الرحم، وأن يتجنب الأسباب الداعية إليها ، وما أحرى به أن يصل الرحم ، وأن يبلها ببلالها ، وأن يعرف عظيم شأن الرحم ، ويتحرى أسباب وصلها ، ويرعى الآداب التي ينبغي مراعتها مع الأقارب .
أ . خالد القصير
|