واحة الفكر والثقافة
>>
مقالات
دعوية :
حضارة إنسانية على درب الأنبياء
على الرغم من كل ما تعانيه الإنسانية الآن من شطط، وانتكاس يكاد يذهب بكل مكتسباتها التي أحرزتها جراء تجاربها المريرة عبر القرون..
وعلى الرغم من الخواء الروحي الذي ينتاب الإنسانية جراء لهاثها وراء سراب المادة، وانغماسها في ثقافة الاستهلاك فوق احتياجاتها المعيشية.
وعلى الرغم من التسفيه الذي تمارسه الفلسفات المادية للقيم الأخلاقية والإنسانية؛ جرياً وراء المصالح الخاصة والأنانيات المتعارضة.
فإني أرى الإنسانية تقترب أكثر فأكثر من درب الأنبياء، توشك أن تطأه أقدامها، فتحث السير على خطاهم؛ مستهدية بمناهجهم للتخلص من أوضارها.
إن منهج الأنبياء كلهم واحد، وإن مدرستهم لواحدة؛ ما زال الإنسان – منذ أن هبط إلى الأرض لم يكن فيها شيئاً مذكوراً- يلجأ إليها وينخرط فيها كلما ألمت به الخطوب، وعصفت به الأهواء فابتعدت به عن طريق الحق.
منذ أن كان الإنسان مشروعاً للخلق - ولديه القدرة على الاختيار الحر لسلوك أحد طريقي الخير والشر- توقعت الملائكة منه الولوغ في طريق الفساد وسفك الدماء؛ فأعلن للخالق استعداده للكدح في سبيل التخلص منهما، وجدارته بتحمل مسؤولية عقله الذي وهبه الله من دون سائر المخلوقات؛ ليكون خليفته في الأرض.. فهو ما يزال ينوس بين الطريقين ؛يرنو ببصره تارة إلى السماء، ويخلد تارة أخرى إلى الأرض، وكان الله تعالى في عونه دائماً؛ يرسل له الرسل مبشرين ومنذرين كلما اختل توازنه وتعثر أو انحرف.
* فما إن يتردَّ قوم نوح في أرستقراطية طبقية تترفع عن الناس، حتى يبعث إليهم نوحاً يذكرهم بأصلهم البشري الواحد، فتستبد بهم الغواية : {ما نراك إلا بشراً مثلنا، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي } [هود 11/27]..
* وما إن ينغمس قوم إبراهيم في وثنية عبادة أصنام يظلون لها عاكفين، حتى ينبري لهم أبو الأنبياء متسائلاً: {هل يسـمعونكم إذ تدعـون؟ أو ينفعونـكم أو يـضرون؟}
[ الشعراء 26/72-73] ثم يمضي مقلباً وجهه في السماء باحثاً عن الله، يجوب الآفاق داعياً إليه بعدما أيقن بوجوده.
* وما إن تستحكم النـزعة المادية الرأسمالية في قوم عاد حتى يتصدى لهم هود: {أتبنون بكل ريع آية تعبثون؟ وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون؟ وإذا بطشتم بطشتم جبارين} [الشعراء 26/128-130].
* وحين تستحكم في ثمود إقطاعية طاغية، يبعث الله تعالى إليهم أخاهم صالحاً: {أتتركون في ما هاهنا آمنين؟في جنات وعيون؟ و زروع ونخل طلعها هضيم؟ وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين؟! فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون} [ الشعراء 26/146-152].
* وحين يفشو في قوم لوط شذوذ جنسي مجافٍ للفطرة يصرخ لوط فيهم: {أتاتون الذكران من العالمين؟ وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون} [الشعراء 26/165-166].
* وحين ينتشر في قوم شعيب فساد اقتصادي مدمر ينبري لهم صارخاً: { أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين،وزنوا بالقسطاس المستقيم، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين} [ الشعراء 26/181-183 ].
* وقال فرعون: {يا أيها الملأ ما علمت لكـم من إله غيري}
[ القصص 28/38] في أبشع صورة للطغيان السياسي؛ يستعبد الناس من دون الله، فيبعث الله تعالى إليه موسى وأخاه هارون: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى} [ طه 20/43-44].
* {ثم قفينا على آثارهم برسلنا، وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة } [ الحديد57/27].
* {ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه} [ المؤمنون 23/44].
* ثم ينقطع وحي السماء بالرسالة الخاتمة، منهياً بها عصر المعجزات الخارقة{ : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} [ العنكبوت29/51]. تاركاً للفعل الإنساني أن يكمل كدحه إلى الله للخلاص من رذيلتي الفساد وسفك الدماء، مستهدياً بالكتاب وبرسالات السماء.
وهاهي ذي سوءات الأمم السالفة كلُّها تتجمع من جديد ليبرز قرن الشيطان، مستهزئاً بآدم الإنسان، وتصديه الحالم لحمل الأمانة، وثقته بقدرته على الخلاص من تهمتي الفساد وسفك الدماء.
فمن لآدم الإنسان يأخذ بيده، ويقيله من عثرته، غير العقلاء يخطون له عقداً عالمياً؛ ينظم العلائق بين الأمم والأعراق والأجناس والأديان والثقافات والحضارات، على هدي رسالات الأنبياء، التي جعلت الاختلاف وسيلة للتعارف والتكامل والنمو والتطور، تمكن آدم من العودة إلى ربه وقد أدى أكبر قسط من الأمانة التي تصدى لحملها.
ولا شيء كالدين – في وحدة مصدره ومنهجيته- يشكل ضمانة لغد إنساني أفضل: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات49/13].
إن المنعطف التاريخي الذي تجتازه الإنسانية اليوم من عصر الصناعة إلى عصر المعرفة- على الرغم من حدته التي أخلت بتوازن العالم- يضع أشرعتنا في مواجهة رياح مواتية تيسر لنا طريق التعارف والحوار وتلاقح الثقافات.. فدخولنا إلى عصر المعرفة لن يكون عبر ما نبني من مداخن شاهقة، وما نكدس من أسلحة الدمار، إنما يكون عبر ما نبتكره من أفكار وما نمتلكه من معلومات؛ ننضجها في مصانع الفكر؛ في الجامعات والمعاهد ومراكز الأبحاث ودور النشر.
وإن عصر المعرفة القادم يبشر باقتراب عصر الأنبياء، الذين أحدثوا أعظم منعطفات التغيير في التاريخ البشري، ولم يكن لهم من سلاح في التغيير إلا البلاغ المبين، واحتمال تبعات جهرهم بالحق مهما كانت قاسية وباهظة.
{يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني} [ هود 11/51].
بقلم عدنان سالم / رئيس اتحاد الناشرين العرب
|