وجهة نظر
>>
خواطر شبابية :
أينما يذهب الإنسان تلقته أسئلة كثيرة : ما اسمك ؟ ما صناعتك ؟ كم عمرك ؟ كيف حالك ؟ ماذا تملك ؟ ما مذهبك ؟ ما دينك ؟ ما رأيك ؟ ثم يبطل هذا كله عند القبر كما تبطل اللغات البشرية كلها في الفم الأخرس ، وهناك يتحرك اللسان الأزلي بسؤال واحد للإنسان : ما أعمالك ؟
أيها المتقاتلون على الدنيا والإنسان إلى حين ! إن تنازع البقاء مذهب فلسفي بقري لا إنساني ...فإنها الثيران هي التي تجد من القوة أن تنتطح في المجزرة وتنسى لم هي في المجزرة !
فتحنا القبر وأنزلنا الميت العزيز الذي شُفي من مرض الحياة ، ووقفت هناك ، بل وقف التراب المتكلم يعقل عن التراب الصامت ويعرف منه أن العمر على ما يمتدُّ محدود بلحظة ، وأن القوَّة على ما تبلغ محدودة بخمود ، وأن الغايات على ما تتسع محدودة بانقطاع ، وحتى القارات الخمس محدودة بقبر !
ياعجباً ! القبور مأهولة بملء الدنيا وليس فيها أحد ! أية ذرَّةٍ من التراب هي التي كانت نعمةّ ورغداً ، وأيتها كانت بؤساً وشقاءً ، وأيتها التي كانت حُباً ورحمة ، وأيتها كانت بغضاً ومَوْجدة ؟
سألت القبر : أين المال والمتاع ؟ وأين الجمال والسحر ؟ وأين الصحة والقوة ؟ وأين المرض والضَّعف ؟ وأين القدرة والجبروت ؟ وأين الخنوع والذلة ؟ ... قال كل هذه صور فكرية لا تجيء إلى هنا ؛ لأنها لا تؤخذ من هنا ! فلو أنهم أخذوا هدوء القبر لدنياهم ، وسلامه لنزاعهم ، وسكونه لتعبهم ، لسخروا الموت فيما سخروه من نواميس الكون !
إن هؤلاء الأحياء يحملون في ذواتهم معانيهم الميته وكان يجب أن تُدفن وتطهر أنفسهم منها ؛ فمعنى ما الإنسانية من شر هو معنى ما في الناس من تعفُّن الطباع والأخلاق .
مصطفى صادق الرافعي |